الأحد، 23 ديسمبر 2012

أيهما أقوى: معدن المنجم أم معدن الإنسان؟

أيهما أقوى: معدن المنجم أم معدن الإنسان؟





تخيل أنك تعيش على عمق 700 متر تحت سطح الأرض، ولا يصل بينك وبين العالم الخارجي سوى فتحة لا يزيد قطرها عن 20 سنتمترًا!  ليس هذا فيلمًا من أفلام الخيال العلمي ولا تجربة بشرية مخططة ومعدة بإحكام لتحقيق رقم قياسي لأطول مدة يستطيع الإنسان أن يقضيها في باطن الأرض
.
في 5 أغسطس الماضي انهار منجم نحاس في "تشيلي" فوق رؤوس منجميه، وبعد 17 يومًا استطاعت فرق الإنقاذ الاتصال بأعماق المنجم ليفاجأ العالم بأن العمال وعددهم 33 ما زالوا على قيد الحياة، بل وتمكنوا من الصمود والعيش حتى ذلك الحين على مؤن كانت في العادة تكفيهم لثلاثة أيام فقط.

وقف العالم مشدوهًا أمام الأزمة؛ فبعد انهيار الممرات والأسقف وسد منافذ الخروج، برزت مفارقة نجاة العمال من الموت ووجود مساحات مفتوحة داخل المنجم توفر لهم حرية الحركة، ومعها اتسعت مساحات الأمل في النجاة.  وبدلاً من الاستسلام، بدأ العمال وخبراء المناجم ومهندسو الحفر والأطباء النفسيون وعلماء التغذية يفكرون في سبل إنقاذ العمال.

بمبادرة ذاتية شجاعة وبروح ديمقراطية شكل العمال مجتمعًا صغيرًا في الأعماق بعدما أدركوا أن تكاتفهم وتآزرهم هو أهم وأوسع الطرق للخروج من المنجم المظلم.  حدد كل عامل لنفسه دورًا يلعبه في الحياة تحت الأرض وبدأ في ممارسته.  فلعب العامل الأكبر سنًا وعمره 62 عامًا دور الواعظ الذي يرشدهم ويطلب منهم أن يصلوا مستلهمين الصبر وطالبين النجاة.  ولعب عامل آخر كان قد تلقى دورة في التمريض دور الطبيب واستطاع تنظيم وجبات الغذاء ومواعيد النوم وتقديم الإسعافات الأولية.  وحتى بعد اتصالهم بالعالم الخارجي من خلال الفتحات الثلاث كان هذا العامل يأخذ التعليمات من الأطباء في الخارج ويتلقى الأدوية والمحاليل والتطعيمات ويعطيها لزملائه بدقة.  ولعب عامل ثالث دور المحاور التليفزيوني فكان يتحدث مع زملائه ويسألهم عن أمانيهم؛ وحين أمده فريق الإنقاذ بكاميرا ليصور ما يجري في الأسفل فتح قناة للبث المباشر مع العالم الخارجي ومكنهم من إرسال رسائل صوتية تطمئن ذويهم.

قدر الخبراء بأن عملية الإنقاذ ستستغرق حوالي ثلاثة شهور، وتم إبلاغ العمال بأن عليهم الصمود والحياة في الأعماق طوال تلك المدة مع كل ضغوط المخاطرة ومعاناة الانتظار.  والآن تخيل نفسك واحدًا من هؤلاء العمال:  هل كنت ستصاب باليأس وتستسلم؟  هل كنت ستعيش بين الضعف والأمل والرجاء؟  أم ستصمد وتتقدم لتقود وتحفز وتقوي وتشد من أزر زملائك الآخرين؟  هل ستكون إيجابيًا أم سلبيًا؟

يقول خبراء وكالة "ناسا" للفضاء - والذين قدموا للمساعدة - إن المشكلات النفسية الحقيقية لهؤلاء العملاء ستتفاقم بعد خروجهم من المنجم.  هؤلاء الخبراء يقدمون مشورتهم ويخططون من الخارج لوضع نهاية سعيدة لهذه المأساة.  لكن خروج العمال من النفق المظلم لن يتحقق إلا بإرادتهم الداخلية.  فمن الواضح أن بينهم رجالاً أشداء نتمنى أن نكون مثلهم.  فمن يستطيع الصمود 17 يومًا بلا مساعدة وبلا بارقة أمل؛ يستطيع مواصلة الصمود 70 يومًا أخرى بعدما لاحت بوارق الأمل على ارتفاع 700 متر هي المسافة الفاصلة بين قاع المنجم وسطح الأرض.

نجاة هؤلاء العمال الكبار يجب أن تبدأ من الداخل؛ أي من داخل كل واحد من العمال المحاصرين.  وهكذا هي كل مشكلة نواجهها في الحياة.  يستطيع العالم الخارجي والآخرون مساعدتنا ودعمنا وتشجيعنا في التعامل مع أزماتنا، لكن الحلول التي يمكننا التعويل عليها، هي التي تتكون وتتوهج وتنطلق من داخلنا، لأن معدن الإنسان ومعادن المجتمعات العاشقة للحياة أقوى من كل معادن الأرض